عندما تبكي النجوم
يقال ان النجوم عيون الله في السماء
ذات ليلة صافية الاجواء خلوت الى نفسي أرقب جمال الكون وبهاء النجوم فتناهى لى سمعي حديث بين النجوم .
قالت نجمه : قبل الف الف عام كنت عينا على قلبين جمعهما الحب وفرقتهما الحرب كنت انصت الى لواعج روحيهما وزفرات نفسيهما واسمع دقات قلبيهما من الاشواق وقطر دمعيهما عند الفراق .. اعلم عنهما وعن حبهما الكثير ولا يعلماني من امري شيئا سوى اني اية من ايات الله يتمتعان بجمالي الاخاذ وبريقي الجذاب .. وراح يشربان من كأس السعادة دونما حساب للايام والاقدار وتقلبات الدهر .. وقبل ان يرتويا من غدير السعادة سحب الدهر كاسه منهما .. قامت الحرب وخطفت من الحبيبه حبيبها وجعلته وقودا لرحاها ورمادا لنارها كما فعلت بالكثير قبله وكما ستفعل بكثير بعده .. وقبل ان يلبي نداء الواجب اتى اليها ذات مساء يجر اذيال اليأس حاملا قلبه الحزين بين ضلوعه وزاده الحربي على كاهله .
أخذ يده الرقيقة المرتعشة بين يديه كعصفور صغير اصابه زمهرير الشتاء القارس ورفعها الى ثغره ببطئ وطبع عليها قبلة دافئة بللها بفيض من دموعه .
قالت بصوتها الساحر الرخيم تتبعه دموعها التي تشبه قطر الندى:لعن الله الحرب ومعها النظم والانظمه التي صنعتها لتطحن بها قلوب المحبين وتصنع بها دموع الثكالى.. استقام في جلسته وقال : انه الواجب ايتها الحبيبة . فأردفت قائله كانها تستدرك ما قالت : بلا يا شقيق القلب انه الواجب امضي في سبيلك ولا تعبئ بمصير صبية نخر قلبها الهيام والحب فأنبت فيه سوس الانانية اذهب وقاتل قتال الابطال البواسل ولا تراعي اهتماما لطفلة استبد بها الوجد والهيام واصنع من حبي درعا يقيك سيوف الاعادي ومن دموعي سلاحا تخترق به صدورهم ومن انتظاري لك قوة تهد بها قلاعهم .. اذهب يا شقيق القلب فأني هاهنا انتظر عودتك اناجي النجوم واقبل كل مكان جمعنا واشكو لواعج حبي للزهور ونجوم السماء والاطيار .. قال والحزن يقتلع اوصاله قلعا : سأحارب لاجلك وسأستبسل لاجلك سيحارب المحاربون في سبيل اوطانهم وراياتهم اما انا فسأجعل من قلبك الطاهر وطنا احارب لاجله وفي سبيله لاسكن اليه بعد عودتي .. ومد يده الى وشاح رقيق يلف عنقهايتطاير منه عبق عطرها شذا ثم اردف قائلا : ومن وشاحك هذا راية لوطن اذود عنه بدمي وروحي وكل كياني سأبقى حيا ليس خوفا من المنايا ولكن لاعود اليكي وتهمسي لي بصوتك العذب ذكريات الحب الجميلة وتنشدي لي انشودة الربيع ..
مرت السنون والايام ووطيس الحرب يزداد اتقادا .. احتمل الالام والجراح في صبر وجلد كبيرين .. لا تدمع له عين ولا تخور له همه او تصدر منه اهة ..
وضعت الحرب اوزارها بعدما اسقطت تيجانا عن رؤوس ورؤوسا عن اجساد ورفعت امة الى علياء السماء وهوت بأخرى الى سحيق الارض .
والحرب اذا مرت بقوم يقل عندهم الزاد ويعم بينهم الفقر والجوع والسقام ومن لم يمت بطعنة في قلبه مات بعلة بطنه ومن لم تقضي عليه الحرب قضى عليه الوباء .. عاد المحاربون زرافات .. زرفات .. في كل مساء عند غروب الشمس تقف سائله هذا وذاك عن حبيب لم يعد .. فلم تجد منهم سوى الصمت المطبق ونظرات الحزن ودموع تترقرق تحت الاهداب انتظرت وانتظرت وأملها في رجوعه سالما معافا عظيم .. ولكنه ما عاد قاومت الجوع والسقام من اجله لتغتسل عيناها الذابلتان برؤياه .. وينتعش قلبها بمحياه وتسمو روحها بمناجاته .. لكنه ما عاد .. أشتد عليها الفقر والمرض ولم تحتمل اكثر وخرت صريعه مع كثير من ضحاياالحرب وهلكت مع الهالكين .
عاد الحبيب منتصرا .. سأل عنها فأشاحت عنه الوجوه ولم يجد ممن سألهم الا نظلرات الرثاء وآهات الحزن .. فأدرك انها رحلت الى دار الخلود مع الراحلين .
وقف عند قبرها منهوك القوى خائر العزيمة وقد اشتد به الوجد وراح يناجي قبرها قائلا: وفيت بعهدي فأين عهدك .. وراح يناجي القبر وازهاره سائلا عنها الاطيار والغاب باحثا عن خيالها بين البساتين والرياحين .. بين ثنايا التلال والوديان .. متخيلا ضحكتها في خرير الغدير وبسمتها في شروق الشمس.
جلس ذات مساء عند قبرها وقد اشتد به الوجد وهاجت في نفسه الذكريات وانحدرت دمعه صافية من مقلتيه فتعلقت بأهدابه وهو البطل الذي تلقى طعنات السيوف وكدمات الدروع وخطوب الحرب وأهوالها العظيمة ولم تسقط له دمعه او تخر له همة .. لكن الوجد به شديد وقلبه يكاد يذوب الما .. تأرجحت الدمعه بين الاهداب وفي لحظة السكون سقطت فغارت في تربة قبرها متسلله بين جزيئاته الى ان وصلت الى شتات قلبها وعانقت سويداءه فوهبها الله الحياة وكأني بتلك الدمعه روت دلك القلب فنبتت فيه الحياة كما يحي الغيث المنهمر الورد الميت .. قامت من قبرها بحلة ناصعه البياض ووجهها وكانه قطعة قطفت من القمر وبسمة عذبة اطلت من ثغرها والنسائم اللطيفه تعبث بشعرها الحريري المسترسل على كتفيها وعلى رأسها تاج يتلألأ زادها نورا على نور .. تقدم نحوها الهوينه كالحالم الذي لا يصدق ما يرى وارتمى في احضانها كما يرتمي الكوكب الصغير بين احضان امه فأطبقت عليه بذراعيها وأحاطته بنورها وتحولا الى قطعه ضخمة من النور وراحا يعرجان ويعرجان الى علياء السماء ليصبحا في كبدها نجمه ..
وهنا توقف همس النجوم وفي الفضاء الفسيح ترائى لي شهاب ساقط على الارض فأدركت أنها دمعه فلتت من مقلتي نجمة .